
تنوّع الخطاب… حين تتوزّع الحكمة على بوابات الحوض الشرقي/محمد يحفظ دهمد
لم تكن جولة فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في ربوع الحوض الشرقي مجرّد زيارة اعتيادية، بل كانت سفرًا سياسيًا بنَفَس الروح، ووقفةً يتجدّد فيها العقد بين الدولة ومواطنيها؛ خطابًا يتلوه خطاب، لكن لكل مقاطعة نصيبها الخاص من البصمة والرسالة… كأن الرئيس وزّع الحكمة بميزانٍ دقيق على جغرافيا متنوّعة، لتُصبح الولاية لوحةً كاملة الخطوط، متعددة الألوان، متناسقة المعاني.
في انبيكت لحواش، أطلّ الرئيس بحديثٍ عميق حول نبذ القبلية وترسيخ قيم المواطنة، فكان كمن يضع حجر الأساس لمجتمع يريد أن يسمو فوق الانتماءات الضيقة. كلامه كان أشبه بنفحة هواء نقيّ، يعيد ترتيب القيم ويستنهض ضمير الدولة الحديثة.
أما آمرج، فقد خُصِّص حديثها للمعلم، ذاك الحارس الصامت لبوابة المستقبل. تحدّث فخامته عن أهمية الأستاذ، وعن ضرورة استعادة مكانته وقدسيته، فبدا الخطاب نشيدًا تربويًا يوقظ الذاكرة ويعيد الاعتبار لمن يحملون مشعل المعرفة.
وفي باسكنو، حيث تختبر صلابة الدولة أمام محيط متغير، ركّز فخامته على القضايا الأمنية، مؤكدًا أنّ أمن المواطن خط أحمر، وأن سيادة البلاد ليست قابلة للمساومة. كان خطابه صارمًا، رزينًا، يرسّخ الثقة في قدرة الدولة على حماية حدودها وصون كرامتها.
ثم جاءت تمبدغة، حاضنة الأدب والسياسة، لتكون مسرحًا لخطاب عن الحكامة الديمقراطية. هناك ارتقى الرئيس بسقف النقاش، متحدثًا عن العقلانية، وعن دولة تنمو بالإنصاف والشفافية، وتُدار بمنطق المؤسسات لا منطق الأشخاص. كان حديثه أشبه ببيان وطني من قلب عاصمة الثقافة.
وفي جكني، واجه الرئيس واحدًا من أخطر أورام الإدارة: الفساد. فجاء الخطاب حادًا، صريحًا، يعلن أن الدولة تفتح عهدًا جديدًا لا مكان فيه للمفسدين، وأن العدالة لن تغضّ الطرف عن أي عبث بالمال العام.
أمّا عدل بكرو وولاتة، فقد وشّاهما الرئيس بحديث عن العلم والحضارة. استحضر تاريخ المكان، وذكّر بأن الأمم لا تبنى إلا على المعرفة، وأن هوية الحوض الشرقي كانت وستظل مشدودة إلى نور المحظرة، ووهج التراث، وعمق التجربة الإنسانية.
وهكذا، خرجت الولاية من هذه الجولة وكأنها دفترٌ مفتوح على صفحات متعددة: صفحة للوحدة، وأخرى للعلم، وثالثة للأمن، ورابعة للديمقراطية، وخامسة لمحاربة الفساد… لكنّها جميعًا تصب في نهر واحد: نهر الدولة القوية العادلة التي يريدها الرئيس مشروعًا واقعيًا لا مجرّد شعارات.
لقد كان الخطاب متنوعًا بقدر تنوّع المقاطعات، ومترابطًا بقدر ترابط الوطن. وكل محطةٍ كانت فصلًا من رواية سياسية هادئة، تُكتب بلغة الحكمة وتُنهي عهد الارتجال، لتؤسس لبلدٍ يمشي بخطى واثقة نحو غدٍ أرحب وأعدل وأجمل.